مع أزمة كورونا والتحول للعمل والتعليم عن بعد كثير من الأشخاص قدّموا شروحات لأدوات تساعد في إتمام العمل والتعليم من المنزل، وكثير منهم وضّح الإيجابيات والفرص التي من المرجّح أن يستغلها الأشخاص والشركات في هذه الظروف على حدٍ سواء. في هذه التدوينة سأتحدث عن تجربتي الشخصية فقط.
أول تجربة لي بالعمل عن بعد كانت في ٢٠١٨ مع رواق، لا أبالغ إن قلت أن كل المهام تُنفذ أونلاين بدءً من الاجتماعات والعمليات والتسويق وحتى التوثيق والعمليات الروتينية اليومية دون إخلال بالجودة، بل بجودة تنافسية عالية في السوق. الموظفون متواجدون بفرق مخصّصة، وكل فريق يعمل وفق صلاحياته الممنوحة له، والمشاركة بين أعضاء الفريق الواحد وبين الفرق الأخرى مباشِرة ولحظيّة وسهلة التّتبع. رواق بدأت التعليم عن بعد منذ عام 2013 والعمل عن بعد أيضاً كان منذ ذلك العام، حاليأ لحسن الحظ لم تتأثر بسبب أزمة كورونا، بل على العكس ارتفعت مسؤوليتها لتقدم خدمات التعليم عن بعد بشكل أوسع من ذي قبل، كذلك الفريق مستمر على ذات النمط المعتاد عليه سابقاً دون مواجهة تقلبات فنية. عملت في رواق خلال سنتين مع أكثر من ١٠ موظفين، وأدرت فريق أكثر من ١٠٠ شخص عن بعد من دول ومدن وثقافات وأعمار مختلفة. المبهر بهذه التجربة أن الإنتاجية فيها تفوق العمل من المكتب، وتختصر الوقت بنسبة كبيرة جداً.
كيف؟
قبل أن أجيب على هذا التساؤل، سأذكر أولاً تحديات العمل عن بعد من خلال تجربتي الشخصية. كما يُقال: الأخبار السيئة أولاً حتى يكون ختامها مسك : )
- تحدي إدارة الوقت: كثير يعتقد أن العمل عن بعد أقل ضغطاً وأكثر راحةً، والحقيقة أنه يمكن أن يرهقك دون أن تشعر. بالبداية أذكر أنني كنت أقضي معظم ساعات اليوم بالعمل، خاصةً وأن الفريق من دول مختلفة التوقيت الأمر الذي يتطلب مني الرد الفوري والتنسيق وتقديم التعليمات لهم بالفيديو بالوقت المناسب لهم هم، ما يضطرني لاقتطاع جزء من وقتي الخاص مع العائلة أو من أعمالي الشخصية وتجاوز يوم العمل التقليدي، يمر الوقت وأنسى نفسي في التنقل من مهمة لأخرى خاصة وأن العمل لا ينتهي إذا لم توقفه عند حدّه، ولكن مع التمرن على إدارة الوقت بصرامة واتزان بين العمل والحياة استطعت تخصيص وقت محدد يتناسب مع روتيني اليومي ولا يؤثر على مهام العمل أو حياتي الشخصية.
- بعيد عن الأنظار بعيد عن الفكرOut of sight, out of mind : البعد المكاني قد يسبب تباعد وفتور بين أعضاء الفريق فقد لا يشعر البعض بالانتماء والترابط وربما يشعر أنه يعمل مع كائنات مجهولة في حال طال العمل دون لقاء حيّ تفاعلي. الحماس أيضاً قد يتضاءل نتيجة لذلك. في البيئات الافتراضية أيضاً، هناك ميل للتركيز أكثر على المهام وقليل جدًا على العلاقات، هذا يمكن أن يؤدي بالبعض إلى الشعور بالعزلة المهنية بدلاً من كونه جزءً أساسياً من الفريق. مع سفراء رواق حاولت جاهدة تجاوز هذا البعد بالتواصل الشخصي المباشر واللقاءات أيضاً المباشرة للدردشة وإبقاء القرب الإنساني.
- فرصة أقل لتبادل المعرفة ومشاركة المعلومات: لأن المعلومات المثيرة والأفكار المجنونة غالباً نحصل عليها دون قصد وربما في أوقات الهدوء كنقاش بسيط أثناء شرب قهوة مع زميل أو دردشة عابرة مع آخر، فإن العمل عن بعد يوفر فرصاً أقل وربما معدومة لهذا النوع من التواصل.
- حدود التفاعل العفوي في الاجتماعات ضعيف جداً: عزلة مهنية وحدود مكانية ربما تجعل الموظف -على الأقل- متحمساً لبدء اجتماع افتراضي! ولكن الاجتماعات الافتراضية تختلف عن العادية في قياس مدى التفاعل فأنت لا ترى هزّة الرأس التي تدل على الموافقة ولا الابتسامة التي تخبرك أنك قلت شيئاً ظريفاً ولا الملل الذي يظهر على الوجه حين تزيد الوقت حبتين، ولا تفاعلات الجسد الأخرى، حتى صوت الضحك ربما في بعض الأحيان لا تسمعه حيث الميكروفونات بالغالب مغلقة وتُتاح للمتحدث كل في وقته. الاتصال المباشر بالعين مثلاً -على أقل تقدير- يؤثر على طريقة تفاعل الناس. فضلاً عن ذلك، قد يزيل العمل عن بعد التفاعلات العفوية التي تُبرز مهارات أو إبداع بعض الأشخاص ويجعل من الصعب الانتباه لها. على كلٍّ، البشر مخلوقات اجتماعية بطبعها، وحتى لا نبدو كالربوتات ونستعجل ثورة الذكاء الاصطناعي فإن لغة الجسد ضرورية جداً في أي تواصل بشري ويجب أن نحافظ على ذلك في بعض الاجتماعات الدورية وإن كانت عن بعد.
- التواصل الافتراضي كتابي: حيث أن الاعتماد بالغالب على التواصل الكتابي أكثر من الشفهي، الأمر الذي قد يسبب أحياناً قلة الوضوح لأن الرسالة تكون مختصرة ومباشرة للغاية. الكتابة كذلك تأخذ وقتاً أحيانا في شرح نقطة بسيطة أكثر من أهمية الوقت نفسه، فضلاً عن أن بعض الأشخاص قد لا يجيدون مهارات الكتابة ومع عدم وجود لغة جسد مرئية أو على الأقل صوتية، قد يكون من الصعب نقل المعنى الحقيقيي. كذلك أذكر أحياناً أنني كنت أرغب بمشاركة بعض المعلومات أو الأخبار التي قد تكون مفيدة أو مثيرة ولكن أتردد في كتابتها حيث أن الكتابة بالغالب تُحيل الأمر جدّياً. لا أعلم، هكذا أظن.
- التحول عن بعد ليس بالأدوات فقط وإنما يتطلب تغيير ثقافة وعقلية الموظفين: نعلم أن العمل عن بعديتطلب تمكين الأعضاء وتدريبهم على أدوات تقنية مختلفة لاستغلال خصائصها بالشكل الأمثل وحتى لا تكون سبب تطفيشهم. فالهدف هو التسهيل لا التعقيد، وهنا يأتي دور الموظف المسؤول في تقديم دروس ذاتية وأيضاً شروحات مباشرة من مسؤول التدريب، هذا بالنسبة للأدوات المستخدمة. لكن ماذا عن عقلية الموظف الجديدة على هذا النوع من الأعمال؟ العمل عن بعد لمن لم يُجرّبه مسبقاً ليس كمن اعتاد عليه، لذلك من المهم على الشركة أن تنشر ثقافة العمل عن بعد ومزاياه ومشاركة التجارب العالمية أو المحلية للأفراد أو الشركات لتكون دافع وإلهام للفريق للاستفادة القصوى من الأدوات ورفع مستوى الحماس والإنتاجية.
الآن سأجيب على السؤال الذي عرضته بالبداية وهو: كيف أن تجربتي في العمل عن بعد كانت تفوق العمل من المكتب إنتاجيةً وتختصر الوقت بنسبة كبيرة جداً؟
- المرونة في الوقت مرتبطة بوضوح في الأهداف: لا أذكر أبداً خلال عملي مع فريق رواق أني أُلزمت بصرامة بتنفيذ مهمة معينة في وقت محدد، ولا أذكر أني ألزمت أعضاء فريقي بزمن محدد أيضاً. السبب يعود لوضوح المهام في البداية وترك الحرية للشخص أن ينفذها وقتما يريد. صحيح أنه لابد من الالتزام بوقت تسليم المهام لكن هذا لا يعني الإلزام بساعات عمل محددة وهذا يعكس الثقة المتبادلة بين الطرفين بالمسؤولية والالتزام.
- مقايضة في الحرية الزمانية والمكانية: بمقارنة مع العمل المكتبي ربما أقضي ساعات على الكرسي لإنجاز مهام أستطيع القيام بها وأنا في الحديقة. المقارنة غير دقيقة نسبياً ولكني هنا أفترض أن المهام تنقسم لقسمين: أذكر أني أنجز المهام البسيطة التي لاتحتاج لتركيز في المقهى، أو السيارة، أو الصالون أو عند شاطيء أو فوق جبل حين أكون في سفر، وأنا أستمع لموسيقى مفضلة، أو أشرب قهوة مع أمي، وربما أيضاً قبل النوم بدقائق. ولكن بالمقابل المهام الثقيلة التي تحتاج لتركيز تتطلب الانعزال عن كل المشتتات والجلوس بمكان مخصص للعمل لضمان التركيز والجودة. أعتبر أن هذا ساعدني بشكل كبير في استغلال الوقت وضرب عصفورين بحجر في الحالة الأولى، وعلمني المسؤولية والانضباط الذاتي في الحالة الثانية. الحرية دائماً ترتبط بالمسؤولية، فمن يعتقد أن العمل عن بعد يعطي حرية فضفاضة فهو ليس مخطيء فقط بل سيجد نفسه غير قادر على تتبع وتخليص المهام المتراكمة. فكما أننا نحصل على ميزة حرية التنفيذ الزماني والمكاني فإن هذا بالمقابل سيتطلب منا التقايض مع العمل عن بعد “بحرية المهام” التي تفرض نفسها علينا أي وقت بلا استئذان وعليك أن تقبل المقايضة تصالحاً وتعتبرها ميزة مثلي ودافعاً لزيادة الإنتاجية، أو ترفضها وتعتبرها إحدى مساوئ العمل عن بعد.
- الفِرق المتباعدة مكانياً أصبحت أقرب ما تكون لبعضها مهنياً: على عكس العزلة المهنية،من خلال تجربتي بالعمل على نطاق مدن ودول مختلفة بإدارة أكثر من 100 شخص يختلفون في الثقافة والمؤهل والخبرة والعمر وجدت أن التشابه في الدافع بينهم يكاد يطغى على كل هذه الاختلافات، حيث كنا نجتمع على هدف واحد ورؤية متّحدة ونتشارك ذات القيم ونحتفل بالإنجاز في النهاية، فحتى برغم البعد الجغرافي فإن هذه التجربة أثبتت لي تطويراً لعقلية المجموعة المتباعدة في الاتفاق والتعاون والمشاركة. بالمقابل كان الاختلاف بين خبرات الفريق وخلفياتهم سبباً لثراء وتنوّع الأعمال والمقترحات التي قدموها، وهنا تظهر كيفية تعظيم فعالية الفرق الموزعة جغرافياً والتي تعتمد بشكل أساسي على وسائل الاتصال الافتراضي! لحسن الحظ مع سفراء رواق، فإن المسافة الجغرافية لم تعتبر عائقاً أبدأ، فالتواصل والهوية المشتركة داخل الفريق كانت تميل إلى أن تكون أكثر قرباً وحماساً. الإنتاجية كانت عالية جداً، والجودة ممتازة، كذلك التفاعل فيما بينهم كان يضفي الكثير من الحماس والاعتماد عليهم. هذا فسّر لي أن جودة العلاقة مع فريق العمل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتقارب المدرك أو التقارب “القيمي” أكثر من التقارب المكاني.
- التوثيق: لأن العمل عن بعد يعتمد على الكتابة أكثر كوسيلة تواصل، فهذا ساعدني بشكل كبير في توثيق الأعمال ورصد وتتبع المهام والرجوع لها لاحقاً وقت الحاجة.
- فرصة لإطلاق مواهب مدفونة: قد يساعد العمل عن بعد الأشخاص الذين لا يحبذون مقابلة الآخرين أو التحدث معهم وجهاً لوجه. من تجربتي وجدت بعض الأشخاص أذكياء وذوو مهارات عالية وقدرات مميزة ولكن إبداعهم لا يخرج إلا من وراء ستار. العمل عن بعد هو خيار مناسب لهم.
أهم ما تعلمته من العمل عن بعد:
- المسؤولية والالتزام: لا تخدع نفسك بالعمل عن بعد إن لم تكن صاحب مسؤولية، ولا تتوقع إنتاجية إن لم يكن لديك التزام صارم مع نفسك وإخلاص تجاه الشركة التي تعمل بها. كنت أضع لمهام عملي في رواق أولوية في جدولي اليومي وأستغل إمكانية المرونة في تنفيذها بالوقت الملائم لي.
- التركيز: في مكتب تقليدي مشترك مليء بالمقاطعات المحتملة، حتماً سيكون من الصعب التركيز الكلي، العزلة المهنية ساعدتني أن أرى ميزة العمل بعمق وتركيز دون مشتتات خارجية.
- اليقظة الذهنية: بسبب وقوعي بالبداية في فخ الانغماس في العمل وتجاوز ساعات يوم العمل التقليدي، أصبحت أكثر يقظة في إدارة الوقت واستعماله باتزان.
ختاماً: في حين تكون بعض الوظائف أكثر ملاءمة للعمل عن بعد من غيرها، هذا لا يعني أن العمل عن بعد جيد أو سيئ، بعض الأحيان يكون مفيدًا وأحيانًا ليس كذلك حسب ثقافة الشركة، نوعية الوظائف والمهام، طبيعة الموظفين، الأهم هو إتمام سير العمل خاصة في مثل هذه الظروف، يقول تيموث جولدن “العمل عن بعد وُجد لنبقى”.