عن أهمية أن تكون شجاعاً

” أريد أن أجد حقيقتي الخاصة التي من أجلها يمكنني أن أموت

لا أعرف قائل هذا الاقتباس ولكن على عكس ما نحن عليه في الحياة، نبدو نسخاً متشابهةتوارثنا معتقدات وعادات من الأهل والمدرسة والمجتمع شكّلت جزء كبيراً من هويتنا التي لم تعد متفردة لأنها نتاج جهود مشتركة وربما جذورها من أزمنة عتيقة. اعتدنا أن نبقى في مأمن مع أنفسنا ومع هذه المعتقدات ونثق بأننا على حق ولا نحاول كشف المستور المتوارث منا وأصل ماهيتنا.. نسينا أنه يجب أن نختار من نكون ونعيد تشكيل أنفسنا تكراراً وأن نتعلم كيف تُعاش الحياة.. الحياة تعني أن نقفز إلى المجهول، وهذا بدوره يتطلب درجة من الشجاعة، والمجهول هو نحن، بداخلنا وليس خارجنا.

يقال إن الإنسان عدو مايجهل، وفي هذا السياق الإنسان يجهل نفسه ويحاول أن يتجاهلها بينما يتهرب من التعرف لذاته، فهو إذاً عدو نفسه حقاً. ولو تأملنا قليلا عن دور الإنسان الأهم في الحياة لوجدنا أنه خُلق ليبحث عن نفسه ويكتشفها في كل المراحل، ليهتدي، ليُبصر، ليتأمل في نفسه ويتفكر فيها ويجد غاياتها، ليُهذب ذاته دورياً ويُحسن صيانتها كأجهزته وسيارته، ليلتفت إلى الجزء الداخلي منه قبل الخارجي لأنه هو مصدر الحقيقة ومبعث النور.

نتجنب غالباً الوصول لأعماقنا لأن مكاشفة الذات متعبة ومصارحتها مؤلمة حيث أننا نقوم بذلك مع أنفسنا بأنفسنا وهذا يتطلب شجاعة وجرأة ذاتية لأن يكون المرء قادراً على تشريح نفسه بنفسه.

ما الذي يضعنا في مواجهة مع أنفسنا؟

في معظم الحالات تأتي المصارحة الذاتية غالباً بعد أزمة أو صدمة، وكأن هذه الأزمة والمشكلة جاءت بهدف أن يتغير الشخص ويتطور وهذه نعمة متنكرة بلباس خفيّ. كثيراً ما يكون على المرء غشاوة وينظر فقط أمام عينيه ولا يدرك ماهو أعمق من ذلك. عنيد هذا الإنسان، يبدأ بالمقاومة وردات الفعل الدرامية ويقوم بتحدي المشكلة والتضارب معها وهذا يزيدها تعقيداً ويزيده تشويشاً واضطراباً. ولكن إن أدركنا تسليماً أن كل مشكلة جاءت لتقدم درساً نتعلم منه سنصرف النظر عن المشكلة ذاتها ولو جزئيا ونتحول إلى عقلية فهم السبب، المعنى، الحكمة، الحقيقة.

فرانكل فيكتور دائماً ما يعيد سياق الظروف المؤلمة والأزمات لحمل معنى عميق للنفس، فمهما كانت التجربة مأساوية بنظره إلا أنها تحمل دروساً وتُخفي حِكماً يجب علينا أن نسعى لفهمها وإدراكها وهذا من الشجاعة. كثير من الأزمات التي تمر بنا مؤلمة جداً حتى أنها قد تكون هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نتعلم منها وننضج من خلالها ونتغير، فإن تجاوزناها دون شجاعة لفهم أعماقنا ومصارحتها فسوف يتكرر حدوثها حتى نصل لمرحلة الشجاعة المطلوبة.

في الألم، الشجاعة تعني العزيمة والإيمان بالذات والاستقلالية الفكرية والشخصية، والاستبصار، والاصطبار، ومكاشفة الذات والتصالح معها والارتقاء بها. المفارقة أنه غالبأ ما يكون هناك فترة تحولية بعد المرور بأزمة إذا كان المرء شجاعاً في التعامل معها، حيث يصل الى سلام وهدوء عميق بالداخل وترتفع أيضا نسبة الوعي وإدراك الذات. مثل تجربة الاقتراب من الموت- رهبة صدمة خوف ثم ما تلبث أن تخرج منها بسلام وسكينة وطمأنينة ووعي أكبر لأنك أصبحت ترى الكون الأكبر وأنت فيه صغير. الأشخاص الذين مروا بهذا الطريق عادة ما يكون لديهم قدرات استثنائية، قوة ايمانية، قوة فكرية، وعي، تنوير، روحانية.. فضلا عن ظهور مفاجيء لمواهب وقدرات جديدة مكتنزة. لهذا فكل تجارب التصارح مع الذات التي تقودها الشجاعة غالباً ما تحمل بذرة تحول وتغير ونقلة في الحياة.

إننا نحتاج للجرأة في تمحيص الشخصية التي نبدو عليها اليوم والغوص في أعماقها، وللشجاعة التي تمنعنا من التوقف عن البحث.. البحث عن الطريق، البحث عن الغاية، البحث عن أجزائنا المتفرقة في الكون، والتساؤل عنا.. من نكون؟ ولَمِ نحن هنا؟

اكتشاف الهوية الحقيقية يجعل الشخص متفرداً ومتوازناً وواثقاً من قيمه واختياراته، لأنه يستطيع التخلي ببساطة عن كل ما التصق به ومالا يعنيه، يعي أنه يجب أن يتغير بقناعة نفسه لا أن يتغير تباعاً لتغير الاخرين أوالظروف المحيطة.

التغير سنة الحياة والواجب على الشخص أن يسعى للتغير والتطور واكتشاف ذاته وروحه وتفرّده. ولو أدركنا أن وجودنا يسبق ماهيتنا، أي أننا نوجد أولاً ثم نختار من نكون وأن أحد أساسيات الوجودية أن الإنسان هو المسؤول الأول والأخير عن وجوده الخاص وليس ضحية ظروف أخرى لكان خيار “تنقيح ذواتنا” خياراً وراداً في كل يوم.

باعتقادي أن هذه العملية واجبة على كل شخص، وهي عملية يجب أن تكون مستمرة مدى العمر فهي بمثابة الهدم والبناء، والشخص الواعي بالغالب يفعل هذا الدور طواعية من نفسه لأنه يحب روحه ويكرمها ويريدها أن تبقى دوماً مُصانة وبحالة أفضل، ولأنه يعتقد أن من حقه أن يتغير ويتطور ويزيل كل الأقنعة والنظارات التي لبسها دون وعي منه.

وقفة تأمل هنا مع هذه الاية “بل الانسان على نفسه بصيرة” – فالتفكر بالذات والوعي بها هو واجبه ووسيلة وجوده ليعرف غايته وحقيقته الخاصة. “ولو ألقى معاذيره” – الله الذي خلق هذه النفس يعلم أن لها القدرة على الاستبصار والوعي والمكاشفة ويعرف أيضا أن هذه النفس لها القدرة على اختلاق الأعذار والحلطمة والتهرب والحيلة والتسويف.

الشجاعة باعتقادي تحمل جانب كبير من المسؤولية الذاتية لمعرفة حقيقتنا الخاصة والغاية التي خُلقنا لأجلها، وأن نسعى لنعرف أنفسنا وقدراتنا وقيمنا الشخصية ونرفض أن نكون نسخة من أي شخص اخر.

شجاعة المسؤولية تمنح الثقة بالذات وقبولها وحبها والفرح بكشف المستور وإزالة الغشاوة التي لطالما حجبت رؤيتنا وتراكمت على فطرتنا منذ خرجنا للحياة حتى اللحظة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: