أيّاً كانت الحياة؛ فهي طيّبة

جلست اليوم في مكتبتي أتامل الكتب وكلما مرّ بصري بكتاب تذكرت منه عبارة كُتب لها أن تبقى في ذاكرتي. قفزت أمامي هذه العبارة “أيّاً كانت الحياة فهي طيّبة” من كتاب لا تنسَ أن تعيش، فتوقفت عندها وأجريت مسحاً سريعاً للمفاهيم التي علقت بذهني من هذا الكتاب، فآثرت أن أشارككم هذه التدوينة.

مؤلف هذا الكتاب بييرو آدو، كتب عن شخصية غوته الفيلسوف والشاعر الذي سبغت على كتاباته الفلسفية معاني الإيمان والروحانية بصبغة أدبية. لقد كانت قراءتي السابقة للكتاب شيّقة وملهمة للدرجة التي اعتبرته من أحد الكتب التي وجدت نفسي فيه وأحببته.

أيّاً كانت الحياة؛ فهي طيّبة

لا أحد يمكن أن يقول إنه لم يمر بأحداث سيئة طوال حياته السابقة، ولم يُفاجأ يوماً بمصيبة، أو لم يكترث بخبر صادم، أو لم يتأثر بموقف مفجع أو موجع.. ومع ذلك نقول دائماً أننا بخير والحمد لله. كثير من هذه الأحداث ربما تعلق بالذاكرة وتؤثر على الحاضر والمستقبل وكثيرٌ منّا قد يتذمّر مما حدث له رغم أنه يقول الحمد لله. لكن ماذا عن مسألة الرضا التام والشعور بأن الحياة بما جاءت وبما حملت هي طيّبة حقاً بالمعنى الذي وصفها غوته؟

“الحياة” من اسمها جميل يوحي بالتنفس العميق والعيش الطيّب، والرسول صلى الله عليه وسلم قال عنها ” الدنيا حلوةٌ خضِرَة”، فعلى رغم ما فيها وما يأتي منها إلا أنها طيّبة إن قررنا أن نتقبلها ونحبها بلا شروط. وهذا يعني أن نكون في حالة رضا دائم بكل مايحدث وأن نتقبل كل شيء على أنه حتميّ ومُقدّر له أن يصير. وأن نتقبل لايعني أن نكون مجرّدين من المشاعر فلا نتفاعل ولا نتألم بل أن نكون أكثر اتزاناً ورضاً وإدراكاً أن مايجري الآن هو الأمثل، وأن نترك الآتي وماهو خارج سيطرتنا للعناية الإلهية ولا نلقي على عاتق الحياة سبّاً ولا شتماً.

لأن الحياة طيّبة!

يقول ماركوس أوريليوس: أياً كان مايصيبك فقد أُعد لك منذ الأزل، وقد جُمع منذ الأبد تضافر هذه الأسباب ولقاءك بهذا الحدث”

أما نيتشه الشاعر والفيلسوف فقد قال كلاماً رائعاً في حب القدر:

“القدرهو النافع في حد ذاته، ولاينبغي فقط أن نحتمله بل أن نحبه”

وهذا اقتباس أيضاً من قصيدة لألبرت شونه يقول فيها:

وأنتما يا عينيَّ السعيدتين

أيّاً كان ما رأيتماه

وكيفما كان

فقد كانَ مع ذلك جميلاً

إنّ الرضا المبتهج في الحياة مع الخضوع أمام قوة خفيّة لاتُهزم -تجري كما شاء لها القدر- هي محاولات عظيمة باسم اليقين والرضا. إنّها ثمة معتقدات وقيم إيمانية تقف خلف كل شخص ليكون ذلك المرء المطمئن لكل ما قُدّر له سلفاً فلا يكره ولا يُقاوم بل يحب ويتجاوز.

وفي هذا المعنى يقول بييرو آدو إن أفضل شعور أجاد روسو وصفه لم يكن شعور لحظة جميلة وإنما كان بتقبل الظروف أيا كانت.

ويأتي العمق في اقتباس غوته هنا:

“إننا نعاني ونفرح تبعا لقوانين عصيّة على فهمنا، نُحققها وتتحقق من خلالنا، سواء أدركناها أم لا”

إذا كانت هذه القوانين حقاً عصية على الفهم لأشياء مجهولة يتعذر استكشافها فإني أراها من لطف الله ورحمته، فالمجهول الذي أشار له سيّد قطب في كتابه الجليل في ظلال القرآن مثير للتأمل:

“المجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي، فلابد من مجهول يتطلّعون إليه. ولو كان كل شيء مكشوفاً لهم -وهم بهذه الفطرة- لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم. فوراء المجهول يجرون، فيحذرون ويأملون، ويُجرّبون ويتعلّمون، ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم، ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق، ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يُبدعوا”

إن تلك القوانين تتجاوز قدرتنا على الفهم، ورغم الإيمان بالغيب والمجهول إلا أن هذا الشعور بما هو عصي على الفهم والاستكشاف كما يقول عنه غوته يثير الفزع والقلق. أتذكر أنه في مرّات عدّة كانت تحدث لي مواقف صادمة أعجز عن فهم أسبابها وكيف قُدّر لها أن تحدث بهذه الكيفية المضادة ربما لفعل السبب، فأجلس أتأمل الحكمة منها وكثيراً ما أعجز ثم ما ألبث أن أقول: يا الله لاشأن لي بذلك فلتفعل ماتريد..

وفي هذا السياق يرى غوته أن الانسان لايكونُ إنسانا كاملا إلا حين يكون قادراً تماماً على تحمّل القلق أمام لغز الوجود.

أترككم مع هذه الاقتباسات المثيرة من هذا الكتاب:

“إن ما نراه من الطبيعة قوة تلتهم قوة، فلا شيء يظل حاضراً، كل شيء يعبر، ألفُ بذرةٍ تُسحق في كل لحظة، وألف بذرة تولد.. جميلة وقبيحة، طيبة وخبيثة، كلها توجد جنباً إلى جنب متمتعةً بالحق ذاته” *غوته

“الكائن خلق وهدم دائمان ولكي يكون؛ عليه أن يقبل ويتغير ويموت.. كل شيء عليه أن يفنى إن أراد الاستمرار”  *غوته

ويأتي نيتشه في وصف قبوله بالحياة بكل مافيها من فتنة ورعب:

“إن روحا كهذه، منعتقةً من المساءلة، مُتحلّيةً بالغفران والقبول- هذا الايمان الذي لايعود في وسعه أن يقول لا، هو أسمى أشكال الإيمان الممكنة”

“لقد كانت الأحداث كافةً ضرورية لخلق الظروف التي أفضت إلى هذا الحدث الفريد، وكل شيء قد سُوّغ وأُقر وقُبل في اللحظة التي قلنا فيها نعم” أي التي رضينا فيها وقبلناها

إن ما يمنح الكون معنىً عند نيتشه كما عند غوته، هي “نعم” التي يقولها الإنسان حتى لأقل لحظة، لأن كل لحظة تنطوي على الأقدار جميعها وعلى كل الأسباب اللاحقة (بييرو آدو، لاتنسَ أن تعيش). يتطابق هذا الإيمان عند نيتشه مع مايسميه بحب القدر:

إنّ التعبير الذي أُطلِقه على كل ماهو عظيم في الإنسان هو حب القدر؛ وهو ألا يريد المرء سوى ماهو كائن، لا في المستقبل ولا في الماضي، وألّا يكتفي بتحمّل الحتميّ ولا حتى أن يتغاضى عنه بل أن يحبّه!

إننا كمسلمون لطالما كان يثيرني التفكّر في الركن السادس من أركان الإيمان وهو أن تؤمن بالقدرِ خيره وشرّه، وهو إشارة على أنه أمرٌ حتمي أن يصيب الشر كما يصيب الخير، وقد أُعطينا منهجاً للتعامل والتعايش مع هذه الأقدار وهو أن نؤمن بها ونرضى بكل لحظةٍ سواء جلبت لنا الفرح أم الألم.

لقد كان مصير نيتشه الشخصي عذابات فضيعة بسبب مرضه كما أشار بييرو آدو، ولابد من الاعتراف أن حب ماهو كائن بالنسبة لنيتشه كان فعلاً بطولياً، وهو يقدّم اعترافاً بهذا الشأن حين يكتب:

كثيراً ما تساءلت إن لم أكن مديناً لسنواتي الأقسى أكثر من أي شيء آخر. لقد علّمتني كينونتي أن كل مايحدث هو النافع في حد ذاته، ولاينبغي فقط أن نحتمله بل أن نحبه.. (حب القدر) ذلك هو عمق طبيعتي.

ويستمر نيتشه باعترافه مُظهراً كل مايدين به لمرضه الطويل الذي أضناه: “أدينُ له أيضاً بفلسفتي”!

إن حب الحياة هذا بكل ماينطوي عليه من ألم وفظاعة مُستلهم عند نيتشه كما عند غوته من الفلسفة الرواقية كما أشار لذلك بييرو آدو. فقد قرأ غوته لماركوس أوريليوس الذي قال: “حريٌّ بالإنسان الخيّر أن يحب ويتلقّى بفرح كل مايقع له من أحداث يربطها به القدر”.

لكن ثمة اختلاف كبير جداً بين غوته ونيتشه. فليست قدرية غوته المبتهجة مُستلهمة من الرواقية فحسب بل من الإسلام أيضاً، ذلك أنه كان يقرأ في الأدب الشرقي والفارسي، حيث كتب غوته قصيدة:

من الحماقة أن يتحيّز كل فرد

لرأيه الشخصي وفقاً لحالته الخاصة

وإذا كان الإسلام يعني “التسليم لله”

فإننا جميعاً نحيا ونموت على الإسلام

وقد أحب غوته أن يكرر هذه العبارة: “نحيا ونموت على الإسلام”. (بييرو آدو، لاتنسَ أن تعيش)

اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين واجعلنا راضين وارضَ عنّا؛ فأنت طِيبُ الحياةِ وغايتها.

————————————–

*  لقد حملَت الفلسفة الرواقية كثير من المعتقدات التي أؤمن بها، وكانت أول قراءة لي في 2017 فقرأت لسينيكا ثم أبيكتيتوس، ولقد تأملت في فلسفتهما وتأثرت بها واستعملت كثير من أفكارها في تفسير النصوص الإسلامية والمغزى من الحياة، وحباني ذلك سعة فهم وإدراك أعمق حيث خلفيتي الثقافية الدينية التي ابتدأتها مبكراً بقراءة كتاب في ظلال القرآن لسيّد قطب حينما كنت في الصف السادس الابتدائي، ومنذ وقتها وأنا أميل إلى النصوص الفلسفية الدينية، ولهذا أحببت هذا الكتاب وتقاليد غوته.

*  هذه التدوينة مستلهمة من كتاب لاتنس أن تعيش، أوردت منه بعض الاقتباسات واستعملت بعض العبارات بتصرّف

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: