بينما كنت أقرأ كتاباً لبرتراند راسل أحد الفلاسفة البريطانيين؛ لفتني الاقتباس التالي وأثار تفكيري للحظات ثم خلصت إلى كتابة هذه التدوينة.. يقول راسل:
فحتى في الحياة الأكثر حظاً توجد أوقات تكون فيها الأمور على غير ما يرام. فالقليل من الناس لم يتشاحنوا مطلقاً مع زوجاتهم، والقليل من الآباء لم يشعروا بالقلق تجاه مرض أبنائهم، والقليل من رجال الأعمال أمكنه تجنب الأزمات المالية، والقليل من المهنيين لم يعرفوا أوقاتاً حَمْلَق الفشل فيها في وجوههم.
في مثل هذه الأوقات تكون القدرة على الاهتمام بشيء بعيد عن سبب القلق من النعم الكبرى. ففي مثل هذه الأوقات-على سبيل المثال- عندما لايكون هناك رغم القلق شيء يمكن عمله، فأحد الأشخاص سيلعب الشطرنج وسوف يقرأ آخر القصص البوليسية وسيصبح ثالثا مندمجًا في التنجيم وسوف يُسلي رابع نفسه بالقراءة عن الحفريات الأثرية. كل من هؤلاء الأربعة حكيم في مسلكِه، بينما الإنسان الذي لايفعل شيئاً لإلهاء عقله ويسمح لمشاكله أن تكتسب امبراطورية كاملة عليه فإن سلوكه غير حكيم وسيجعل نفسه أقل قدرة في التعامل مع مشاكله حين تحين.
إنني أتفق بشكل كبير مع راسل في تقديره للاهتمامات والهوايات الجانبية بدلاً من الانغماس في الأعمال والأدوار الرئيسية في الحياة. إن هذه الاهتمامات بنظره لها قيمة عظيمة حيث توفر السلوى في أوقات معينة، وتمنح الاسترخاء من الانشغالات الأكثر جديّة من جانبٍ آخر. ولأن كثير منّا توّرط بنمط الحياة المدنيّة فإنه ليس من المستغرب أن يصبح الشخص أكثر تعباً وانشغالاً وبالتالي ربما تنعدم القدرة لديه بالاهتمام بأي شيء. وكلما زاد انشغاله كلما انطفأت اهتماماته! وبينما تنطفيء اهتماماته فإنه يفقد تدريجياً وهج الحياة والرحابة التي تمنحه إياها ويصبح بذلك أشد انشغالاً وأكثر تعباً.. ويستمر بهذه الدائرة التي لن تنتهي إلا بالانهيار من ضغط العمل والحياة.
وبالنظر إلى الاحتياجات الأساسية للعيش في هرم ماسلو فإن تحقيقها يمنح الكفاية كحد أدنى (الأمان، الصحة، الدخل الكاف…) ويعطي الكفاءة في أعلى الهرم (تقدير وتحقيق الذات). وأيّاً كانت حاجة الشخص في أي مرحلة فإني أعتقد أن للاهتمامات دوراً فاعلاً في تسيير حياة الإنسان إما بالتسلية كما قال راسل أو حتى بتقدير الذات. ولذلك أطلقت على هذه الاهتمامات “الخزّان الاحتياطي” : )
كيف تجعل خزّانك ممتلأً؟
في حالة نضوب الموارد الرئيسية للعيش وشُح مقوّمات الاستمتاع كشُح الوقت مثلاً بسبب الأعمال المهنية فإنه من الذكاء أن يكون لديك خزّاناً احتياطياً يعوّض النقص ويجلب المتعة. الشيء المريح في الاهتمامات الخارجية “الخزّان” هو أنها لا تتطلب عملاً مضنياً.. فقط اختيار يتبعه قرار.. وسأعرض في نهاية التدوينة كيف نختار اهتماماتنا..
أسباب أخرى تقنعك بضرورة أن يكون لديك اهتمامات جانبية
- الاهتمامات تملأ وقت الفراغ: لاشك أن أحد أهم إيجابيات ممارسة هواية أو نشاط أو اهتمامٍ بشيء ما؛ هو رفض الشعور بالملل وملء وقت الفراغ بذكاء بشيء جيّد وممتع.فالشخص الذي يجد مايمارسه في وقت فراغه أفضل بكثير من الشخص الذي يتضجّر مللاً ولا يدري ماذا يفعل. اسأل نفسك.. ما الذي أفعله غالباً في وقت فراغي؟! هل هو اهتمام حقيقي أم تسكّع بلا هدف : /
- الاهتمامات مصدراً للسعادة والمتعة: الاهتمامات الجانبية تجعل الاستمتاع بالحياة أسهل؛ فالذي لديه اهتمامات واسعة سيكون على الأرجح أكثر سعادة من غيره. خذ على سبيل المثال؛ الشخص الذي يستمتع بالقراءة هو أكثر سعادة من الشخص الذي لايجد مايستمتع به، والشخص الذي يستمتع بممارسة الرياضة يفوق الانسان الذي لايهتم بها. حتى جمع الطوابع، فهي للشخص الذي يهتم بها متعة لايحس بها الذي ليس لديه اهتمام بها.. يقول راسل في هذا السياق:
إنني لا أجمع الطوابع..أنا أجمع الأنهار، فأنا استشعر المتعة من أنني أبحرت عبر نهر الفولجا وتتبعت مسار نهر اليانج ولكنني أتحسر كثيراً على أنني لم اشاهد نهر الأمازون او الاوينوكو
إنه يشير إلى “الشعور” وهو المتعة ويؤكد على أهمية “الفضول والاكتشاف” في سبر أغوار جديدة وهذه بدورها من مسببات السعادة. وعلى ذلك؛ كلما كان الشخص لديه اهتمامات واسعة كلما زادت احتمالية ان يكون سعيداً وقلّت احتمالية أن يكون تحت وطأة الحياة، لأنه إذا فقد شيئاً فإن لديه شيئاً آخر يهتم به.
- الاهتمامات وسيلة للهروب الإيجابي من المشكلات وضغط الحياة والعمل: حقّاً.. كما يشير راسل في اقتباسه السابق؛ فالأنشطة والهوايات ليست فقط مصدراً للسعادة وإنما وسائل لتحسين المزاج. كلنا مُعرّضون لحالات عصيبة لانريد الاستغراق فيها، وبالتالي فإن “خزّان الاهتمامات” الذي لديك سيساعدك للهروب من الواقع ونسيان الألم الذي تصعب مواجهته. فضلاً عن ذلك؛ فإن الاستغراق في هوايةٍ ما يُسلّي في الأوقات التي نشعر فيها بالإحباط ولا نحرز فيها أي تقدم.
- الاهتمامات تبعث روح الدهشة والفضول: تماماً كالأطفال! فالعالم بالنسبة لهم مليء بالمفاجآت، وهم متحمسون دائماً للاستكشاف وتجربة أشياء جديدة بكل حواسهم، إنهم يُرعون اهتمامهم لكل شيء يمارسونه.. أما نحن البالغون فقد فقدنا متعة الفضول والاكتشاف بسبب نمط الحياة المدنية وأعمالنا التي لاتنتهي! فضلاً عن ذلك؛ فإن التقنية سلبت منّا الكثير وحرمتنا من المتعة الحقيقية التي تأتي بممارسة نشاطٍ ما. وإنها مسؤولية كل شخص أن “يختار” طريقته في الحياة بأن يوفر فيها قدراً من الاهتمامات الجانبية الممتعة والمثيرة.
- الاهتمامات استثمار طويل الأجل: القليل من الوقت الذي يُبذل في هذه الأنشطة لايُعد وقتاً ضائعاً بل استثماراً طويل الأجل لأنه سيٌعرّض الشخص لتجارب مختلفة ويصقل مهاراته ويفتح له نوافذ جديدة، وهذا بالتأكيد له تأثير إيجابي ولو بشكل غير مباشر على شخصيته وحياته ومستقبله.
لهذه الأسباب البسيطة.. اجعل اهتماماتك واسعة قدر الإمكان وخزّانك موفوراً..
ثم..
علّم نفسك الإحساس بأن الحياة تستحق العيش
بينما كنت أتأمل في اقتباس راسل قفزت لذهني مقولة جبران خليل جبران المشهورة عن الحياة، التي يقول فيها:
أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة…
إن الحياة واسعة ورحبة بينما قدرتنا على التكيّف مع الظروف الصعبة ليست دائماً قويّة، فإذا كنا نعتقد أن سعادتنا مرتبطة كليّاً بظروفنا فإننا سنكون رهن ضغط هذه الظروف حتى تزول ولن نرى الوجه الآخر الممتع في الحياة. لذلك من الجيّد أن ينفتح الإنسان لأفق آخر من آفاق الحياة يجد فيه متعته وسلوته، والاهتمامات الجانبية هي أحد آفاق الحياة الطيّبة. ولأن الحياة قصيرة؛ فإن فكرة أن نستمتع بما فيها هي فكرة فيها تقدير للذات. والشخص الذي ليس لديه تقديراً لذاته سيكون من الصعب عليه أن يطلب من الحياة الكثير لتعطيه، فهو لن يُبالي بأهمية أن يكون لديه أنشطة واهتمامات وسيقتصر وقته ونشاطه على جوانب قليلة ومحدودة. وبالتالي فإن الذين يفشلون بتقدير هذه الفرص المتاحة لهم يتنازلون عن أحد أهم الامتيازات التي تقدمها لهم الحياة.
ولأنه من الجانب الديني أيضاً يؤكد تبارك وتعالى في أكثر من موضع: “خلقَ لكم” ، “هيأَ لكم” ، ” ذرأَ لكم” ، “جعلَ لكم”….. وكثير من الآيات التي تدل على الكرم الإلهي وأن الحكمة من هذه النعم هي لإمتاع بني آدم.. الإمتاع الذي يستوجب مزيداً من التفكّر ومزيداً من الشكر. والشخص الذي يُحسن استعمال هذه الاهتمامات ويوجهها لأهداف طيبة؛ فإنها ستكون دافعاً له للاستزادة بالامتنان وتجديد بواعث الشكر كلما جرّب شعور المتعة والدهشة.. فالشخص الذي يستمتع بالقراءة سيشكر الله أكثر ممن لا يستمتع بها، والذي يجد المتعة في لعبة التنس سيمتن لله على الوقت الذي قضاه أكثر من الشخص الذي لا يفعل.
ما الشعور وراء كل نشاط؟
المتوقع من كل نشاط أو هواية نمارسها هو الاستمتاع التلقائي وليس المخطط له إجباراً، يعني لاتقل يجب أن أكون سعيداً إذا مارست هذا النشاط. الإنسان السعيد هو الذي لديه العديد من الاهتمامات يتنقل بينها حسب حالته الذهنية والنفسيّة.. بشرط أن يكون اهتماماً حقيقياً وليس اهتماماً مصطنعاً.. يعني أن يمارسه لأجل نفسه لأنه يمنحه شعوراً جيداً من الداخل وليس لإرضاء شيء بالخارج كالتصوير للناس والمفاخرة مثلاً..
إن ماتفعلونه بمفردكم هو ما يصنعكم..
قالها جون خوري. يعني ما تفعلونه لأجلكم برغبتكم المحضة. لأن متعة أن تحصل على الاشباع من ممارسة مهارة معينة دون الرغبة في الحصول على الاستحسان العام يعتبر نضجاً وثقة بالنفس.
حسناً.. كيف نختار الاهتمامات؟
قد يكون من الصعب التخمين مقدماً بما سيُثير اهتمام شخصٍ ما، ورغم أن معظم الناس على أقل احتمال يستطيع الاهتمام بشيء أو باخر، إلا أنه يحتار باختيار اهتمامات متعددة تستحق وقته. هذه نقاط سريعة تساعد في اختيار وتعبئة خزّان الاهتمامات : )
- جرّب كثيراً.. كلما جرّبت أكثر ستعرف ماتميل إليه نفسك أكثر، تقبّل الملل من نشاط وتوجّه لاخر، ثم عد إليه لاحقاً للتحقق من مدى مناسبته لك أو لا.
- هيء طقساً وأعدّ العُدّة.. احصر أهم ثلاثة اهتمامات تثير انتباهك في المرحلة الحالية، وهيء الطقس لكل واحدة، مثلاً إن كنت تنوي الاهتمام بالقراءة فاشتر كتباً وضعها على الرف، وإن كنت ستهتم بنوع من الرياضة فاشترك بنادي، وإن كنت تُفضل تجربة تسلق الجبال فتابع من سبقك إليها وشاهد تعليمات لخوضها. الهدف أن تكون في دائرة الاهتمام.
- اخلق عادة.. ممارسة مرة واحدة لاتكفي.. الالتزام يأتي بالتدريج وبوضع مستهدفات سهلة بالبداية ثم رفعها لاحقاً.
- كن فضولياً.. وسّع نظرتك واكتشف أكثر. كن راداراً على التجارب والأشياء لا على الأشخاص.
- ابدأ صغيراً بمواردك المحدودة.. اخترالاهتمامات التي لا تحتاج لمال كثير، بمكان قريب، لاتتطلب جهداً كبيراً حتى لا تستصعب المهمة وتنفر منها.
- خصص وقتاً.. كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر، ضع جدولاً والتزم به لفترة معينة.كما ذكرت سابقاً؛ فإن القليل من الوقت الذي تبذله في هذه الأنشطة ليس وقتاً ضائعاً بل استثماراً طويل الأجل.
- استمر.. الاستمرارية هي السر، لأنها ستُكسبك ميزات تراكمية على المدى الطويل، وربما تنبثق من أنشطتك الحالية أهدافاً بعيدة المدى تتفتح ببطء.
ختاماً.. قد يتعالى البعض على هذه الاهتمامات البسيطة ولا يُلقي لها بالاً، بينما لو قدّر قيمتها ستكون حياته أكثر متعة وأقل تضجرّاً، وسيكون هو أكثر انسجاماً في هذا الكوكب الجميل : )
أمامي الآن قائمة أعددتها -كخزّان احتياطي- لسبر أغوار جديدة في الحياة خلال الشهرين القادمين : )