
هذه السنة زرت العديد من المدن وتنقلت بين أراض مختلفة في جغرافيتها وهويتها وثقافتها. ولأني أُفضل الضياع في السفر فقد سمح لي ذلك بعيش تجربة مختلفة وفريدة منذ بداية هذا العام.
كان لدي هدف رئيسي مهم قبل أن أضع قدمي في أي مدينة، وهو أن أسمح للمدينة أن تُريني وجهها دون أي استباق لاكتشافها.. لم أكن أخطط كثيراً ولا أفكر طويلاً.. الأمر الذي سمح لي أن أنساق وراء اختيارات روحي ومتطلباتها في كل لحظة. تنقلت بين الشرق والغرب وأحسست بالفرق الذي طبعته كل مدينة وكل منطقة على نفسي ومشاعري وأفكاري، وكأن التضاريس الجغرافية لكل مدينة تحاول أن تُشكّل جزءً مني أو تؤثر به. في الوقت ذاته أدركت أني أؤثر بها أيضاً ولكن ليس بذات القوة. فأنا عابرة وهي راسخة.. وأنا قادمة بعقلية المُستكشف بينما هي الكاشفة.. وأنا الذرّة الصغيرة فوق أراضيها وهي التي تحملني كُلي عليها..
تسألت مرة: هل أنا القائدة أم المُقادة؟ هل أن المُستكشفة أم المكشوفة؟ هل أنا التي أختبر المدينة أم أن لها السيادة في اختباري؟!
احترت طوال رحلاتي كلها في الإجابة.. حيث بدت الأدوار بيننا متبادلة، ولكن ليست متكافئة، فقد كان تأثيرها عليّ أقوى واختبارها لي واضحاً في كل خطوة أخطوها. حين أدركت هذه الحقيقة شعرت لأول مرة بدهشة، وهو الشعور الذي أتى بعدما سمحت بفعل اللاشيء.. وتحررت من القيادة والتخطيط وتعلمت أن أتناغم مع المصادفات والاحتمالات اللانهائية وأن أعيش التجربة الآنية في لحظتها.
كنت أصحو صباحاً دون تحديد وجهة إلى أين سأذهب، أتبع قرص الشمس أو هبوب الريح.. أمشي حيث يُلقي بي طريقي، وأتأمل بعيون طفل مندهش من كل شيء حوله، أخطو ببطء أو أُهرول للاوجهة وأستمتع بكل شيء وأضحك بلا سبب، وحين أتعب أتكيء على جذع شجرة أو أستلقِ تحت أشعة الشمس أستمد من طاقتها ما بقي ليومي. لا أخطط أي مطعم أزوره وليس لدي قائمة بأفضل الأماكن والمعالم، كل ما علي هو أن أجرب بنفسي وقتما تكون إليه حاجة شعورية.. لقد كنت أسمح لنفسي أن تكون.. وأن تجرّب حتى مالا يروق لها، كثيراً ما ينتهي اليوم دون فعل شيء سوى أني مشيت وتأملت ولكن لم يكن وقتاً سدىً بل كانت تجربةً مثرية بالانتباه هنا والآن.. تذوقت أطعمة لا تروق لي وأطعمة ساحرة، خُضت تجارب مُتعبة وأخرى مُمتعة، جرّبت نقيض كل شعور وأضداده.. الدهشة والخوف، الانتعاش والضيق، المسؤولية والحرية، الغربة ومتعة التحدث مع الغرباء، السّكينة والضّجيج الصاخب.. ولأن التنقل بين المدن كان متسلسلاً وعلى مدى ستة أشهر فقد شعرت بأنها تجربة مكثفة للعيش بطرق مختلفة ومشاعر متنوعة أحدثت إرباكاً واضحاً فيَّ ولكنه بالنسبة لي ارتباك صحي ومطلوب، وهذه هي النقطة التي توقفت عندها كثيراً.. وشعرت بفضلها..
مرآة المدينة.. وأنا
هناك مدن ترى بها وجهك وانعكاسك، وتتجلّى بها روحك على حقيقتها وقوّتها.. وهناك مدن تكتشفك وتُريك مواطن ضعفك المخبوءة.. ولأن كل مدينة مقدّرة على التجربة التي تقدمها لنا وتكشفنا من خلالها فقد شعرت بالقوة التي تؤثر بها المدينة علينا وتلمس جانباً خفيّاً منّا لا نعرفه.. كيف لهويتنا أن تتغير وتنسجم أو تنفر من الطابع الثقافي أوالجغرافي للمدينة، وكيف نستجيب بدهشة للامألوف، وكيف نتأثر بساكنيها، وكيف نتعامل ببداهة مع المواقف التي لا وجود لها في أرشيفنا المحدود.. وأكثر من ذلك كيف أن لكل مكان تأثيراً مختلفاً على النفسية والشخصية باعتبار أن كل أرض تحمل طاقة مختلفة متأثرة بطاقة الأشخاص عليها منذ تاريخ خلقها حتى اليوم. إنني أؤمن بأن كل شيء يؤثر بكل شيء ويتأثر بكل شيء.. وكل ما تكشفه فينا الأماكن وتُثيره من شعور أو أفكار إنما هو فرصة للتوقف برهة والإدراك بطريقة مختلفة للذات والحياة سواءً كان هذا الذي تكشفه فينا إيجابياً أم سلبياً. إحدى المدن التي زرتها في إنجلترا كشفت شعوراً سلبياً فيّ كنت أظن ألاّ وجودَ له عندي وهو الخوف، وأنا التي أعتبر نفسي قوية وواثقة وجريئة في اكتشاف المجهول.. في اللحظة التي وطئت قدمي مركز المدينة انتابني الخوف وبدأت خفقاتي تتزايد وأنا مستمرة بالمشي على قدمي صوب الفندق، وكل ما حولي ضجيج وأناس مختلفون متهورون لم أرهم من قبل، ورائحة الحشيش تكاد تغتال رئتيَّ النقيتين والدخان يغطي الشوارع كسحب سوداء متراكمة.. لا أكاد أسمع صوتي ولا أشم عطري ولا أرى حتى حقيقتي.. بل كنت أشعر باشمئزاز يثيره خوف مُبطّن من هذا المشهد العام. حين وصلت الغرفة استحممت مباشرة وكرهت الخروج وجلست أتأمل من النافذة وأراقب هذا الشعور الذي جلبته لي هذه المدينة وكتبت عنه صفحات حتى نمت. وفي الصباح خرجت من المدينة فراراً مع أقرب قطار إلى لندن.
بعد أيام قصدت سكوتلندا، تحديداً أدنبرة.. ويا للعجب الذي اختبرته هناك بالمقابل.. إنه في اللحظة التي وصلت فيها إلى محطة قطار أدنبرة تنفّست بعمق وضحكت دون سبب وشعرت إحساساً بداخلي أنها مدينة رائعة وسأقضي بها أياماً مبهرة.. استقبلني صوتها من بعيد.. موسيقاها الفريدة أخذتني مشياً إلى مصدر الصوت دون أن أشعر.. جلست على الرصيف بجانب شنطتي أستمتع بالموسيقى والأجواء النظيفة وأراقب بفضول أهلها المبتهجين. لقد قالت لي سيدة في لندن إن أهل أدنبرة أناس فرحون مُبتهجون ولطيفون وهذا حقاً ما شهدته منذ اليوم الأول حتى غادرتها. لقد كشفت أدنبرة بداخلي مشاعر مختلفة من الحماس والإثارة والبهجة والدهشة والثقة في كل ممراتها وقلاعها وقُراها المختبئة وكذلك السكينة والتأمل والحضور من علو جبالها ومرتفعاتها. لقد استحثّت مناطق أخرى في سكوتلندا أفكاراً عميقة عن الأصالة والحضارة والتاريخ الذي ارتبط بجذور مختلفة منها الحضارة الفرعونية حتى أن مرشداً سياحياً أخبرنا أن الموسيقى هنا تأثرت بشيء من الموسيقى المصرية القديمة كتلك التي تظهر في أغاني المغنية فيروز.
الشاهد في التجربتين هو أن لكل مدينة وجه مختلف يؤثر بنا ويستحث ما بداخلنا من شعور وأفكار حتى تظهر على السطح وندركها ونختبرها ونعرف كيف نتعامل معها سواء إيجابية أم سلبية فإنها كلها في صالح المسافر حتى يتطور ويتوسع ويشعر ويختبر تجربة جديدة.
لقد تعمدت خلال النصف الأول من السنة أن أزور أكثر من 10 مدن بين الشرق والغرب، وأعترف أن هذا مربك نفسياً وفكرياً ولا يحتمله أيّ أحد ولكن كان لقصدي أن يكون، وأن تتحقق الغاية التي أهدف إليها. لقد كنت أستسلم بحضرة كل مدينة وأسمح لها أن تكشف المخبوء فيّ، وألاّ أضع أية أحكام قبل زيارتها، ولا أتنبأ بأي توقعات منها، أن أقصدها بنيّة أن أستقبل منها ما تود أن تمنحني إياه من تجربة خاصة تناسب طبيعتي وتفردي، لقد تخيّلتني ضيفةً عزيزةً عند كل مدينة أزورها، وقبل أن أدخلها بقدمي اليمنى أقول بنفسي “الضّيف بحُكم المُضيّف.. حسناً، ما الذي أعددتِه لي أيتها المدينة؟!” ثم أبتسم وأمشي للمجهول واثقةً بحدسي، ولا أعترض خطةً رُسمت لي، ولا أمتعضُ من تجربةٍ سيئةٍ حلّت بي -وقد اختبرتها كثيراً- بل أحمد الله وأشكر المدينة التي كشفت المجهول لأعرفه ولأتعلم كيف أتعامل معه، لقد سمَحت لي كل مدينة أن أكتسب منها ما أريده وأتخلّى ممّا لا أريده بعد أن أصبح لديّ القدرة على تمييز واختبار الواقع والمجهول. كان لهذا الانفتاح أن يترك لكل مدينة بصمةً في روحي وطبعةً على وجهي.. أن أرى نفسي فأرى منها أثراً باقياً عليّ حتى بعد رحيلي عنها. والأهم من ذلك كله؛ أن هذه التجربة سمحت لروحي أن تكون على حقيقتها وأن تعيش اللحظة الحاضرة دون تشويش الماضي والمستقبل.
تجربة السفر الانفرادي
كانت معظم تجربتي السابقة في السفر انفرادية ولكن ليس كلها.. الفارق أن السفر مع أشخاص يجعل الاختبارات والاكتشافات بين الأشخاص أنفسهم، حيث كلٌّ سيكون له دوره الواعي وغير الواعي في اكتشاف الآخر، وهو أمرٌ رائع وممتع لمن يقصد السفر للاستمتاع مع الأشخاص المسافرين معه والتعرف عليهم وتطوير سلوكه وشخصيته، ولذلك قيل في السفر إنه الوسيلة التي تعرف بها الشخص وتتعرف إليه. بينما في السفر الانفرادي فإن الاكتشاف متمحور بينك وبين المدينة ذاتها، والاختبارات موضوعة من المدينة إن استسلمت لها، والنتائج التي ستتحصل عليها ستعود لفضل المدينة التي زرتها.. ستكشفُك المدينة وتكتشفُك، وسترى انعكاسك بها جليّاً كمرآة طالما أنك متواجد بها ومعها منفردين.. سترى جانبك المظلم في ظلامها ونورك السّاطع في شمسها، وستختبر اختبارات شيّقة وأخرى عسيرة.. التحدّي كلّه هو أن تعرض نفسك لأكثر من مدينة مُغايرة في وقت متقارب حتى تحصل على تجربة مكثّفة ترى بها حقيقتك أكثر وضوحاً وتستمتع بفرديّتك والفرص الفريدة التي تُلقي بها عليك كل يوم حسب تفضيلاتك الخاصة.
ختاماً..
إن السفر هو أحد اختبارات الحياة التي بها تكون أو لا تكون، أن تشعر أو لا تشعر، أن تعرف أو لا تعرف، أن تستمتع أو لا تستمتع، أن تفهم ذاتك والحياة أم تتأخر في استيعابهما. إن المدن تختبرُنا وتصقُلنا، وإن دخولها لمجرّد التلذّذ فقط بماديّاتها وترك روح التجربة جانباً لا يعود على الشخص إلا بمعرفة مطاعمها وأسواقها ثم يرحل منها بلا ذاكرة معنوية أو تجربة روحانية.
ومن هنا أطرح سؤالاً للتأمل:
هل سمحت مرةً لمدينة أن تكتشفُك بدلاً من أن تكتشفها؟ وماذا اكتشفَتْ بك؟ وما الذي كشفَتهُ -خصيصاً- لك؟