لازلت أتعجب من القوة المرتبطة بسيل الأفكار لدي أثناء المشي. اعتدت أن يكون المشي من نمط حياتي اليومي الذي لا أتصور أن ينقضي اليوم دون أن أمارسه. لا أحتاج كثير من المهام لأشعر بقيمة اليوم، فالمشي كافٍ لأقول عن يومي إنه انتهى بإنجاز شيء ما، بالنسبة لي هو ليس رياضة فحسب، بل عملية ارتبطت عندي بأبعاد جسدية وفكرية ونفسية وروحانية، ما يجعلها ضرورة حياتية في يومي وإن لم أفعلها أشعر وكأن يومي ليس مكتملاً!
ألهذه الدرجة؟
نعم، وكثيراً ما أتساءل عن هذا السبب. يحدث أن تأتيني رغبة مباغتة للمشي تضطرني لترك ما بيدي من أعمال لأُلبي تلك الرغبة -انسياقاً- دون تردد لمجرد أنها رغبة فقط. الأمر أشبه بشيء أفعله بلا تخطيط ودون أن أفكر بمتى وأين وكيف أمارسه، باعتقادي أنه لا شيء يجب تفسيره حين يتعلق الأمر بالرغبة.
حسناً.. ما الذي يحدث حين أمشي:
- أنا أمشي = أنا أفكر.. وأنا أفكر = أنا على قيد الحياة.
لهذا السبب أصبح المشي عندي عادة مقدسة تتجاوز عدد الخطوات التي أخطوها، ذلك أنه وسيلة تساعدني على التفكير والتأمل وهو إحدى الطقوس المفضلة لدي لاستمطار الأفكار بمختلف أشكالها (قرارات، كلمات، خطط، حلول، صور ذهنية وخيالية وواقعية، أهداف، أحلام….). في المشي يزيد عندي مستوى التركيز والتدفق فربما أُؤلف قصيدة، أخطط لمشروع، أحيك سيناريو، أتخيل المستقبل، وعادةً ما أنهمك في استكشاف معنى حياتي والغاية من وجودي على هذه الأرض التي أمشي عليها اللحظة.. وما ان أتوقف عن المشي إلا تتوقف كل هذه الأفكار عن التدفق وأنساها.. أحياناً أمسك القلم أو الجوال أريد تدوينها لأنها تكون ملهمة لي وتستحق الاحتفاظ بها ولكن للأسف تتبخر بمجرد أن أفكر بتدوينها! ياله من شعور مُستفز ومُضحك أحياناً.
- أنا أمشي = أنا أغتسل = أنا أتحرر = أنا أتخفف..
أحد أكثر الأوقات إلهاماً لي تكون إما أثناء المشي أو الاستحمام! لا أعرف كيف يتدفق سيل من الإلهامات علي حين أكون في إحدى الحالتين : ) الشعور أثناء المشي يشبه الشعور أثناء الاستحمام، فكلاهما يعطي شعور بخفة جسدية ونفسية وذهنية وروحية وكأن شيئاً يتحرر مني ليسمح بالفراغ، بالصفاء، باللاشيء، وهذا شعور كافٍ لأن يقال عنه أنه مريح جداً. بالأحرى كأنه عملية ديتوكس على كل المستويات السابقة. شعور الخفة هذا أحياناً يتبعه رغبة بالجري الذي يلازمه إما شعور الضحك أو شعور الطائر الذي يحاول اقتناص فريسته على بُعد أميال، وفريستي في المشي والجري هي طبعاً أفكار هههههه.
أما عن طقوسي الخاصة بالمشي -ليتحقق المعنيين السابقين- فالشروط هي أن:
- أمشي لوحدي.
- بمكان هاديء ربما لايمشي فيه سواي، في صمت، وإن كان بمكان فيه إزعاج أو أشخاص كثر فسماعات الأذن هي الشرط الملازم، وأشغل عادة موسيقى مخصصة للمشي للانفصال عن هذا الإزعاج.
- التوقيت غالباً صباحاً أول ما أصحو من النوم قبل الإفطار، ومساءً قبل المغرب أو بعده، وربما تختلف حسب الأجواء.. أما الوقت الأفضل بالنسبة لي هو بعد الفجر حيث أعتبره وقت السكون والتنفس والإشراق على الجسد والروح ولكني لم ألتزم به بعد لتقلبات جدول نومي، وسأحاول أن يكون هو الوقت المخصص للمشي في المستقبل القريب إن شاء الله.
هذه الطقوس لتحقيق المعنى من المشي المراد ذكره هنا، أما المشي بمعنى التمشي أو الرياضة فممكن يكون بأي مكان ومع أشخاص وبوجود الإزعاج لايهم. إلا أن دافعي من المشي لم يكن دافعاً رياضياً أو صحياً بالدرجة الأولى، لذلك فأنا أمارسه أكثر بالطريقة السابقة حتى بات حاجة ضرورية في نمط حياتي اليومي.
ومن دواعي الفضول حاولت مؤخراً أن أفهم أسبابي الخاصة التي تجعل هذه الرياضة البسيطة رياضة مقدسة لا أستطيع الاستغناء عنها، ولأنني الأكثر فهماً لدوافعي والمؤثرات عليها فقد خلصت إلى فلسفتي الخاصة بالمشي:
أعتقد أن شعور الحركة الذي هو عكس التوقف هو الدافع الخفي وراء رغبتي هذه، فأنا لا أريد أن أتوقف. وهذا تفسير لأحد قيمي الحياتية “التحرّك والتقدم” والاستمرار بالتطور والتحسّن على جوانب الذات والحياة المختلفة. أعتبر أن الحركة سنّة كونية فجميع المخلوقات وكل ما في الكون في حالة حركة دائمة ومستمرة وهذه الحركة هي السبب وراء التغير والتحول، فالنهار لا يطلع إلا بحركة الشمس كأبسط مثال، والتوقف يعني التعطّل وقد يكون هو المعنى المرادف للموت حيث لا شيء في الحياة متوقف إن قلنا إنه حي والعكس. ممارسة المشي -بالنسبة لي- تعطي هذا الشعور بالحركة والانتقال والتقدم في السير وإن حدث ذلك على المستوى الجسدي إلا أن تأثيره يتعداه إلى النفسي والفكري وحتى الروحي.
المشي يعطي الشعور بالانسياب والتماهي مع الموجودات، وشعور آخر بالتخلي عن هذه الموجودات المحيطة إذ أن الاستمرارية بالمشي تُجبرني تلقائياً على أن أغير زاوية النظر للصور التي أعبر بها، وتُغير علاقتي بكل ما أمر به حيث لاشي يجب أن أتوقف عنده فكل شيء يمضي ويأتي غيره جديد. يؤكد لي المشي فكرة “العبور والمرور” وإلقاء السلام على الحاضر الآني الموجود والاستعداد لتقبل رحيله بسلام، وعدم التوقف الطويل في المحطات التي تبدو أنها لحظات ارتياح مؤقتة ولكنها أحياناً تؤخر الوصول للاوجهة.
أحب المشي كذلك لأنه يُعزز قناعتي التي تقول لا وجود حقيقي لأي وجهة في هذه الحياة، حالنا فيها العبور والانتقال المتواصل والارتياح بمحطات نُوهم أنفسنا في كل مرة أنها الوجهة الأخيرة ولا نعلم أنه يجب أن نستمر في التجاوز والتقدم الذي يمنحنا رغبة البحث عن شيء جديد والتفتيش عن مسلك آخر خفي في هذه الحياة، وهذا ما أستشعره وأنا أمشي حتى أجدني فعلاً فقدت المسار وبدأت رحلة أخرى من الضياع.
الشعور بالضياع الذي ربما يُلقي بي على منحى مختلف هو ما أقدسه أيضاً في المشي حيث يقود إلى متعة أخرى وهي البحث من جديد وتغيير الاتجاه.. يظل البحث عن الوجهات والاتجاهات هو السر الذي يبقيني على قيد الحياة، وهذه من أهم قيمي الشخصية لحصول التطور وتبني معتقدات جديدة حيث البحث عن الطريق الصواب هو السبب الذي يجعلني أتساءل كل يوم أي وجهة هي الأنسب؟ وأي اتجاه ربما يحملني لاحتمال أفضل.. المشي يُعمّق فيّ هذه الفكرة: تجربة الضياع الحتميّة والاستمرار في البحث كقدر أزلي للإنسان حيث هو المسؤول الأول عن هداية نفسه.
المشي إحدى وسائلي لممارسة التفكير والتأمل: كثير من الدراسات أشارت إلى أن المشي هو أهم الممارسات التي تساعد على التفكير وتصفية الذهن، وكثير من الأشخاص توصلوا لأفكار مجنونة أثناء المشي. وهذا ما يحدث حقاً معي. فدافعي من المشي هو الرغبة بممارسة التفكير وليس المشي بحد ذاته، أحاول أن أهرب من المشتتات وأتخلص من الزوائد الذهنية والأحمال النفسية بينما ألتقط الأفكار الجيدة التي تحوم فوقي. للمشي والحركة علاقة مباشرة بتصفية الذهن وتحريك الراكد من الأفكار وتحرير الضار منها كما هي ذات الفوائد المعروفة للجسد من التخسيس وتخفيف الوزن وتحريك الدورة الدموية وأعتقد أن هذا يربط المعادلتين السابقتين ببعض:
أنا أمشي = أنا أغتسل = أنا أفكر
فالمشي يساعد على صفاء الذهن والتفكير لأنه يسمح بغسيل الشوائب العالقة والترسبات المتراكمة من الأفكار الضارة التي لا قيمة لها حيث يتبعه شعور الخفة والتحرر الذي يساعد على التركيز. وهنا لي وقفة مع هذه الفلسفة من منظور ديني:
لفت انتباهي مؤخراً شعيرة المشي المفروضة في الحج والعمرة والتي تتطلب قطع مسافات طويلة مقترنة بابتهالات وذكر ودعوات والتي تهدف في جملتها إلى التقرب إلى الله، فالشعيرة العامة تتعلق بقصد القلب ولكن كان لابد لها من عمل بدني يرافقها لاستشعار الحكمة وتحقيقها، لذلك فالمشي هنا ليس مجرد ذكرى لحادثة تاريخية وقطع مسافة معينة بل يتعدّاه إلى بُعد روحاني أيضاً وهنا نستشعر ما قاله الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الطائفين: “لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حطّ الله عنه خطيئة وكتب له بها حسنة” المشي إذاً هو اغتسال من الذنوب والخطايا والتطهّر النفسي والروحاني الذي يسبق استجلاب القبول والحسنات وحلول البركة الإلهية. أما اقتران المشي بالتلبية والتكبير والذكر إنما هو لتركيز الذهن على الهدف المحدد وهو القصد حتى لا يتشتت بالنظر والتحدث مع الآخرين بل يصاحبه حضور القلب واتصال الروح، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنما الطواف صلاة، فإذا طفتم فأقِلُّوا الكلام” وهذا شاهد على ارتباط حركة الجسد مع التركيز على الأذكار الأمر الذي يساعد على الحضور ويُعد للاتصال الروحي بصاحب القوة الأعلى. خلاصة الفكرة التي أريد إيصالها هنا هي أن المشي يساعد الذهن ليكون خالياً ومستعداً لتلقي الإلهام.
أختم بعبارة أعجبتني لبثينة العيسى تقول فيها: “المشي أصبح لدي طقسٌ تطهيري ورياضة روحية.. شعيرة للتخفف من الواقع وتسكين آلامه.. كرة كرستالية أرى فيها كل ما يمكن أن يحدث”.
ومن تجربتي الشخصية أقول إن للمشي تأثيراً أبعد من الصحة الجسدية، بل يتعدّاه للصحة العقلية والنفسية والروحية.
لذلك أنا امشي= أنا أتحرر = أنا أفكر = أنا أستمطر