ماذا تعلّمت من إبليس؟!

كتبت بالأمس تغريدة أني كنت في لقاء مع شخص وكنا نتحدث عن مصادر التعلّم فقاطعني ساخراً: حتى إبليس تقدرين تتعلمين منه.. ثم أردف بحديث المصطفى المعروف: “قد صدقك وهو كذوب“.

أذكر أني لم أتمالك نفسي من الضحك ولكن بنفس الوقت بقيَت هذه العبارة العميقة عالقة بذهني حتى بعد انتهاء الاجتماع.. وبينما أقود سيارتي كنت أتساءل حقاً: ماذا تعلمت من إبليس اللعين؟!

المفاجأة الساخرة أني استطعت أن استخلص منه دروساً لا تعد ولاتحصى للدرجة التي بقيت أتجول بالسيارة مستمتعة بـمراجعة الـ Lessons learned  وأرشيف التاريخ المنصرم المتوّج بانتصارات عظيمة إزاء هذه الدروس المتلبّسة بإبليس!

كنت في تلك اللحظة لا أدري حقاً هل أقول شكراً لإبليس اللعين أم أشتمه؟

إنه سؤال وجودي استثار مخيلتي وإلهامي حتى بدأت أتفكّر هل إبليس شر أم خير أم Hybrid

حسناً.. في هذه التدوينة سأحاول أن أشارككم أفكاري بصوت عال حول هذه القضية، وكيف تلاحمت الأفكار وتعاونت لتجعل من إبليس وجهاً آخر للخير ومصدراً للتعلم!

حسب خلفيتي الدينية والنصوص التي تبادرت لذهني تلك اللحظة كنت أُقر فعلاً أن تاريخ إبليس كان شرّاً محضاً عليه لعنات وغضب إلى يوم الدين بدءً من إغوائه لسيدنا آدم وأمّنا حواء وإخراجهما من الجنة وتكبّره وتعاليه على أمر الله، مروراً بقصة سيدنا إبراهيم حين ذهب لتنفيذ أمر الله بذبح ابنه إسماعيل فاعترض له إبليس يتساءل عن السكين التي بيده وينشده الرحمة والحنان.

هل إبليس شر إذاً؟

في قصتيّ آدم وإبراهيم عليهما السلام يظهر إبليس عدوّاً لاشك فيه، ولكن في كلتا الحالتين جاء بدروس.. لقد تعلّم آدم معنى الاستخلاف في الأرض واستيقظت فيه القوى لمعرفة العدو وهُذّب بالتوبة وأُعدّ للانتصار، وأول اعتبار أدركه هو أن الإنسان سيّد هذه الأرض ومن أجله خُلق كل شيء وهي مقتضيات تجربة البشرية المتجددة المكرورة حتى تقوم الساعة!.. أما إبراهيم فقد هُذّب بالتسليم والتضحية وتعلّم اليقين والطمأنينة مقابل الشجاعة والجرأة في تنفيذ الأوامر العليا بذبح فلذة كبده والتغلّب على وساوس إبليس.

عوداً إلى إبليس اللعين وإلى السؤال الوجودي هل هو خير أم شر.. لقد خلصت وأنا أتجول بسيارتي إلى منتصف الليل إلى أن كل مايأتي به إبليس من الشر هو فرصة لتطوّر الإنسان، وزيادة وعيه وتفتح إدراكه، إنها رسالة رهيبة يؤديها إبليس! والإنسان هو الذي يقررأن يلعن إبليس سبعين* مرة ثم يمتن للدرس الذي جاء به تِباعاً. فبعض الشر يأتي بكثير من الخير! وكما يقال إذا أراد الله أن يرسل لك الخير حمَله ولو على ظهر عدوك..

فإبليس يُحتمل أنه العدو الذي يأتي بخير!! نعوذ بالله منه

كيف نعرف إبليس؟

حين كنت أقود سيارتي لم يأتِ بمخيلتي صورة معينة لإبليس لأنه لايستحق أن يكون له وجود أصلاً ولا حتى بالخيال، السبب الاخر لأن الهدف ليس معرفة هيأته وإنما أفعاله.. لقد شعرت أني أتعمق قليلاً في التماس خفاياه ووساوسه وكيف لي أن أُدركها كما أَدركها سيّدنا إبراهيم.. وعلى هذا كله فقد صرفت النظر عن هذه الفكرة الخفيّة واستبدلتها بفكرة أكثر واقعية، وهي أنه في كل شخصٍ منا إبليس صغير أو كبير!

نعم.. لا تتعجب.

لأن الإنسان ليس معصوم من الشر فإنه في كل مرة يفعل الإنسان شراً تأكد أن وراء هذا الشر الذي يفعله إبليس، أياً كان نوع هذا الشر.. قد يكون شراً مُستطيراً فالمرجّح إذاً أن إبليس الكائن في هذا الإنسان كبير جداً وبنى له امبراطورية ضخمة وعيّن رعاياه فيها مما يجعل هذا الشخص وغداً على أقل احتمال كأولئك المخادعين الأشرار الذين يعيشون بلا مباديء ويقتاتون على الاخرين ويتسببون بالحروب والفرقة والسرقات. وقد يكون الشر في الشخص على مستوى أخف قليلاً كأولئك الذين يُحبطونك ويقفون بطريقك ويؤذونك ويجرحونك ويحسدونك ويعكرون مزاجك رغم أنك تحاول بشتى الطرق أن تجعل يومك سلاماً إلا أن هؤلاء الأشخاص أيضاً يؤزّهم إبليس..

لقد تذكّرت في هذا السياق وأنا أقف عند الإشارة الشاعر العراقي جميل الزهادي في إشارته إلى أن إبليس هو الإنسان الذي يخدع غيره لتحقيق غاية من غاياته، فيقول:

لا يخدعُ المرءُ إنساناً لغايتهِ

إلّا إذا كان ذاكَ المرءُ شيطانا

لقد توصلت بالفعل إلى أن أي شر كبيراً حجمه كان أم صغيراً؛ يتسبب في تحطيم دولة عظمى أو خدش قلبٍ رهيف فإن إبليس خلفه. إذ أن الإنسان بفطرته نقياً لا شرّ فيه فهو نفحةٌ من روح الله، ولكنه يستسلم ضعفاً أو خديعة أمام هذا الإبليس فيفعل الشر بأخيه الآخر.. ومن هنا بالمقابل نتعلم الدروس!

نعم.. نتعلم من إبليس الكائن في كل شخص..

هذا ما أردت الوصول إليه، وهو أن الأشخاص السيئين الذين نقابلهم في الحياة يجب أن نعتبرهم مصدر تعلّم وأن نشكرهم ونمتن لوجودهم رغم الشر “الإبليسي” الذي يأتي منهم.. لأنه بحسن نية نحن نتعلم ونتطور من أفعالهم الشريرة أو السيئة على أقل احتمال، وإذا أمعنّا النظر أكثر فربما نتبيّن أن سبب وجود الشر فيهم هو إحدى رسالتهم في الحياة لتطويرغيرهم بطريقة تصعب على غير الواعي إدراكها، وهذا بدوره يقلل من الحنق عليهم والدعاء لهم بالغفران والصلاح بدلاً من لعنهم كما نلعن إبليس.. لأن إبليس هو مصدر الشر بينما كانوا هم الوسيلة “الضعيفة” التي استسلمت لإبليس فأصبحت آداةً له يستعملها لتفعيل مخططاته وشروره.. طبعاً ليس كل من يفعل الشر يُعذر ويُغفر له ولكن هي مجرد فكرة لالتماس العفو -في بعض الأحيان- للأشخاص “الجهلة” مقابل أننا تعلمنا منهم درساً..

أعتقد أنك سمعت كثير من الأشخاص يقولون لقد كان الشخص الذي يُحبطني ويحتقرني سبباً في نجاحي؟!

أليس هذا اعتراف صريح بأن هؤلاء الذين يستعملهم إبليس كانوا حقاً مصدر تعلّم وتطور وسبب نجاح؟! إذاً ألا يستحق أن نمتن لوجودهم؟

تخيّل لو لم يكن إبليس موجوداً.. يعني لم نتعرض للشر بتاتاً البتّة.. هل سيكون بوسعنا أن نتعلم؟ نتطور؟ ننمو؟ نرتقي ونعي؟

أليس إبليس إذاً مصدراً للتعلم ؟!

على ذلك كله.. إن أحد الأفكار التي حضرت ببالي الان هي أن فكرة تأثير إبليس بالشر-بواسطة الأشخاص- قد تكون مصدر تعلم حقاً ولكن ليس هو الطريق الوحيد، فقد يتعلم الإنسان بطريق اخر لا شرّ فيه، والشاهد أن الله ذكر قصة آدم وإبليس في أول مرة بسورة البقرة وعرض إغواءاته في سور كثيرة وأنها معركة مستمرة بين الاثنين ولكنه ختم سور القران كلها بسورة الناس التي جعلها وِرداً يومياً يحفظ الشخص من شر إبليس (من الجِنّةِ والنّاس)، وبذلك يستطيع الإنسان أن يرتقي ويتطور ويتعلم بطريقة يقِظة دون أن يمر بإبليس..

أختم بسؤال وجودي آخر: هل تريد بدورك أن تكون للآخرين مصدر تعلّم إبليسي؟

إذاً افعل الشر ولا تُبالي..

أشكر الزميل الذي ألهمني لكتابة هذه التدوينة. اللهم إنا نعوذ بك من إبليس ونسألك القوة والحفظ والإيمان..

——————————————

  • ذكرت سبعين مرة استناداً مجازياً لقصة سيّدنا إبراهيم حيث قيل في رواية أنه حين اعترض عليه إبليس كان في موضع “الجمرات” فرماه بسبع حصيات في كل مرة حتى صارت سبعين مرة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: