ماذا يفعل الناس في ويمبلدون؟

يمكنني أن أقول ويمبلدون! ذلك المكان من الكرة الأرضية الذي تسمع به صوت مضارب كرة التنس وكأنها تضرب داخل جمجمتك مُحدثةً قعقعةً يتحرك على إثرها بؤبؤ عينيك يمنة ويسرة في محاولةٍ سريعة تقول لك: ركّز!

في الصيف الماضي قررت الذهاب لبريطانيا، في الأسبوعين الأولى اخترت الإقامة في أحد ضواحي لندن، تلك البقعة التي تُدعى ويمبلدون. لم يكن اختياري لهذه الضاحية عشوائياً، فقد أجريت مسحاً وبحثاً دقيقاً لاختبار أن تكون هي المدينة التي ستمنحني شعوراً جيداً.. وقد فعلتها ويمبلدون!

حسناً.. ما الأسباب التي جعلتني أختار ويمبلدون؟

ويمبلدون ضاحية تقع جنوب غرب لندن وتبعد قرابة 45 دقيقة بالقطار، ضاحية تتسم بالهدوء والرقي ويقال أنها تسمى مدينة الأثرياء، صافية ونقيّة مثل صفحة بيضاء كما أن شوارعها تعبق بالروائح العطرية التي تبثها زهور الأقحوان والليلك والياسمين، لا تكاد ترى قُصاصة أو منديلاً على الأرض، بَصمتها فريدة بين الأصالة والتحضّر، كل شيء فيها واضح مثل شعاع الشمس حتى أزقّتها شفافة وواثقة، تفاصيلها مثيرة للتأمل والتوقف للعيش هنا والآن، ليس بها ما يثير الخوف ولا القلق تبدو متسامحة منسجمة مع ذاتها غامرةً زوارها بالبهجة والدهشة. إنها ملوّنة.. نَسيمها أغنية ومطرها رقصات رشيقة وليلها سكون.. وأهلُها.. ماذا عن أهلِها؟ لايمكنني إلا أن أقول إنهم يشبهونها كثيراً.

لهذه الأسباب التي تنبأت ببعضها قبل السفر اخترت ويمبلدون.. ولقد كانت المكان الذي كنت أحتاجه لقضاء وقت مفعم بالنقاء وروح الحياة الطبيعية والمشي في غاباتها بسكينة ودهشة حاضرة، وأكثر من هذا كله دعاني الفضول لدراسة سلوك سكانها وسؤالهم عن سر حبهم لرياضة التنس!

منذ اليوم الذي دخلت فيه مقر إقامتي شاهدت أدوات التنس بجانب المدخل وصوراً معلقة على الباب لهذه الرياضة.. وبعد أيام لاحظت أن التنس رمزية رائجة في الشوارع والمحلات وحتى أمام بيوت السكان، وأن كرات التنس تباع في البقالات كما تباع الشوكولاتات.. لاحظت أيضاً أن الحدائق كلها تحتوي على ملاعب تنس، وأن أهلها لا يكفّون عن ممارستها في أي وقت، وأن طلاب المدارس يحملون شنطهم الدراسية وشنطة أخرى للمضرب والكرات، ورأيت أن الصغير والكبير والرجال والنساء لا فرق بينهم في المنافسة بهذه الرياضة.. بدا ذلك لي مدهشاً وأثار فضولي.. حينها علمت أن جولاي هو شهر المباريات العالمية لكرة التنس والتي تقام كل سنة في ويمبلدون، ويأتي الناس قبل هذا الوقت للتدرب والتحضير، علمت أيضاً أن معظم لاعبي التنس مقيمين في ويمبلدون أو لهم بيوت خاصة لقضاء وقت طويل فيها..

وبينما كنت مسافرة لوحدي وأقضي ساعات أتحدث مع نفسي أو مع الورق؛ قررت أن أكون فضولية وجريئة وأبدأ حواراً مع الأشخاص لفهم سر هذه الرياضة ودوافعهم لممارستها وشعورهم أثناء وبعد اللعب.. سألت قرابة 20 شخصاً من مختلف الأعمار والجنسيات والجنس والثقافة وحتى مستوى الخبرة بالتنس. لقد كنت أفعل هذه المقابلات من باب الفضول والمتعة وقضاء الوقت بالحديث مع الآخرين لدقائق معدودة، فذهبت لملاعب الأحياء والملاعب الدولية، وكنت أبادر بسؤال الأشخاص في الحافلة والقطار أو في المقاهي وطوابير الانتظار.. وخرجت منهم بآراء متشابهة ومختلفة في الوقت ذاته، هنا سأذكر أهم ما جمعته من معلومات عامة عن رياضة التنس ولماذا في ويمبلدون بالذات، كما سأورد بعض القصص المثيرة وربما المضحكة على لسان متحدثيها.

حسناً: هذه بعض الحقائق عن التنس والتي اتفق عليها معظم الأشخاص الذين قابلتهم. وكان سؤالي الأول:

لماذا تلعب التنس؟

كانت معظم الإجابات مباشرة وكثير منهم كرر نفس الأسباب؛ إليكم إياها:

التنس رياضة مثيرة، يمكن ممارستها مع شخص واحد أو مع فريق، وهي رياضة جيدة للمحافظة على الصحة واللياقة البدنية، تتطلب خفة الحركة وتمنح بذلك القوة. التنس مفيدة أيضاً للصحة النفسية والذهنية ذلك أنها تفرض التركيز مما يساعد الشخص على التغلب على المشتّتات برشاقة. التنس رياضة تكتيكية تتطلب التخطيط والتفكير فهي تُدرب على السرعة في الاستجابة والتغيير، إنها تدريب ذهني بامتياز.

ما الذي تحبه في التنس؟

ذكر شخص أن أكثر مايميز التنس هو أنها رياضة تنافسية مع الشخص ذاته قبل أن تكون تنافسية مع الخصم.. توقفت وسألته أكثر ماذا يعني ذلك؟ قال إنه تحدٍّ كبير لذاتي أن أعرف كيف أواجه الكرة بالمضرب وأردها ثانية بسرعة هائلة، إن وجودي لاغنى عنه في اللعبة الفردية، فلا يوجد من ينوب عني مثل ماهو الحال في كرة القدم حيث وجود فريق.

إجابة أخرى دوّنتُها من سيدة اسكوتلندية قالت إن التنس ليست مجرد مضرب وكرة، إنها أعمق من ذلك.. إنها تخبرني عن قوتي الداخلية وانضباطي ومحاولة السيطرة على ما في يدي وهذه المهارات تُعدّني للعمل بجد لتحسين نفسي وحياتي. أما سيدة أخرى فذكرت أنها تحب التنس لأنها رياضة ليست عنيفة مثل بعض الرياضات الأخرى المعروفة. بينما أشار رجل من المكسيك قابلته في الملعب المقابل للجامعة إلى الإثارة التي تكمن في وضع الاستراتيجيات والاستجابة السريعة والتي تتطلب تركيزاً عالياً وخفة بالحركة، حيث قال يجب عليّ أن أتوقع المفاجئة التالية من الخصم وأستجيب لها بسرعة خاطفة. أشار لذلك أيضاً شاب يبدو في المرحلة المتوسطة قال إن أكثر شيء أحبه في التنس هو أنها تبقيني يقظاً وممارستها بانتظام يحسّن الذاكرة والتركيز على المدى البعيد ولايوجد رياضة مماثلة توفر نفس المستوى من اليقظة والتركيز والمتعة بنفس الوقت.

إنها حقًا رياضة لها تعريف شخصي لكل لاعب، ومع ذلك فقد أذهلتني إجاباتهم وحبّهم الشديد لهذه الرياضة.

ما الشعور الذي تحصل عليه أثناء أو بعد لعبة التنس؟

بعد الكثير من الجهد والتركيز ذكر الكثير أن اللعبة تنتهي بالسعادة وتحسين المزاج والشعور بحماس لانتظار الجولة التالية.. ذكروا أنها رحلة مستمرة من المتعة والإثارة لأن التحدي والتركيز فيها هو عنصر أساسي وهذا مثير للأشخاص الذين يفضلون الألعاب الذهنية وقليل من الحركة الجسدية. فلا يوجد إنهاك جسدي كما هو مطلوب في رياضة الجري أو كرة القدم أو السلة ولكن الجهد الأكبر هو ذهني، الأمر الذي يسمح بتقليل التوتر وتحسين المزاج بهدوء وكذلك الشعور بروح رياضية مع الخصم بعد انتهاء اللعبة.

فتاة من جنوب أفريقيا في المرحلة الثانوية حين سألتها هذا السؤال ذكرت أن كرة التنس تمنحها شعوراً مختلفاً كل يوم، وحين طلبت أن توضح ماذا يعني ذلك؟ قالت: “منذ أن كنت طفلة كانت تصحبني أمي لملاعب التنس وفي طريقنا كانت تردد إن إجادتي للتنس يعني الفوز على الحياة.. لم أكن أعي ماذا تقول ولكني كنت أرى أن كرة التنس تمثل الحياة، وأنا ألعب الآن أتخيل أني أضرب الحياة حقاً وأريد التغلب عليها وأشعر بذلك الانتصار بعد الانتهاء، إنه لأمرٌ مضحك حقاً ولكن أمي كانت تقصد أن التنس تساعد على التركيز والانتباه وردة الفعل السريعة والذكية بينما لازال لدي الشعور بأن الفوز بالتنس يعني الفوز على الحياة”.

أخيراً سألتهم: لماذا التنس في ويمبلدون؟

اتفق جميع المشاركين في المقابلات على معلومات تبدو واضحة؛ وهي أن التنس رياضة ولدت في بريطانيا وأن أول بطولة أقيمت كانت في ويمبلدون، كما ان العائلة المالكة أولت منذ القدم اهتماماً بهذه الرياضة ووضعت لها معاييراً صارمة لاتوجد في بطولات أخرى خارج ويمبلدون. ذكروا أن بطولة ويمبلدون هي من أكثر بطولات العالم المرموقة حيث أنها البطولة الوحيدة التي تقام على العشب كما أنها فرضت الاحترام لقوانينها القديمة حيث لايزال يتعيّن على اللاعبين التقيد باللباس الأبيض، وهي بذلك تستقطب أفضل اللاعبين حول العالم وتستضيف الملوك والمشاهير كل سنة.

فضلاً عن هذه المعلومات أشار بعض الأشخاص إلى أن ويمبلدون أصبحت مجتمعاً لهواة التنس، فتكوين الصداقات مع أشخاص يتشاركون الهواية سهل جداً، كما أنك ستجد جميع الفئات من جميع الأعمار وهو أمر محفّز للاستمرار، ذكر أن هذا المجتمع أصبح يدعم بعضه بعضاً كما يتحدّى بعضه بعضاً في الوقت نفسه وهو أمر رائع.

بالمقابل؛ حين سألت سيدة هذا السؤال سردت لي أرقاماً لاتنتهي حتى قاطعتها ضاحكة وأنا أقول: يا إلهي! أنت بارعة في الأرقام.. لقد ذكرتْ عدد اللاعبين وعدد المتفرجين وعدد الملاعب وعدد الكرات وعدد الشاشات ووووو وكل أرقام التنس في ويمبلدون.

حينما عدت من السفر لفت انتباهي اهتمام فارس التركي بالتنس، وبينما هو المعروف بأيقونة فطور فارس إلا أنني تحمّست أسأله نفس الأسئلة التي سألتها اللاعبين في ويمبلدون حتى تشمل العيّنة شخصاً من السعودية : )

حسناً ماذا قال فارس التركي عن التنس؟

ربما بعض إجاباته كانت مشابهة للأشخاص الآخرين ولكن الشيء الوحيد الذي لم يذكره أحد هو أنه قال إن التنس لعبة راقية، وكرر هذه الكلمة 4 مرات : )  

قال إن عالم التنس عالم متكامل وراقي، حتى الجمهور الذي يشجع في التنس راقين جداً وهادئين مقارنةً بجماهير كرة القدم الذين اعتادوا على الصراخ والفوضى، ذلك أن من قوانين اللعبة الصمت أثناء اللعب لأنها تتطلب تركيزاً عالياً من اللاعبين وهذا الصمت احترام لقوانين اللعبة. ذكر أيضاً أن كل ما يتعلق بالتنس من أدوات وملابس ومضارب يبدو راقياً وجاذباً له. وعن دوافعه للعب كرة التنس ذكر أنها تساعده على كسر الروتين وتحسين المزاج وتقليل الضغوطات، وأنه يتطلع لها يومياً كملاذ بعد دوام شاق وتحديات عملية مع المورّدين الذين يمتصّون طاقته : ) أما عن شعوره أثناء اللعب فهو شعور ممتع جداً وفرح.. حيث أنها تُكسبه ممارسة مهارات واستراتيجيات جديدة ماتعود عليه بالرضا العالي والمتعة رغم الإرهاق الجسدي، وأنه يتطلّع في نهاية كل لعبة للجولة القادمة.

ذكر أيضاً أن ما يُحببه لهذه الرياضة أنه ليس فيها احتكاك بدني كما في كرة القدم والملاكمة، ثم ختم بأنها رياضة فيها من الرقي الشيء الكثير.

وبكذا يكون فارس أكد لي أن ويمبلدون بشكل غير مباشر هي مدينة راقية والناس فيها راقين.

ختاماً.. أترك مسألة أرقام عن التنس لفارس التركي، ومزيداً من الدهشة..

رأيان حول “ماذا يفعل الناس في ويمبلدون؟

  1. استمتعت بقراءة هذه التدوينة.رائع لو التقطي صور خلال اقامتك لتزيد جمال هذه التدوينة.

    Liked by 1 person

    1. Seham Almubarak

      تسلم عبدالرحمن. والله راح عن بالي أرفق صور، ممكن أضيفها لاحقاً

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: